ضفاف
علي عبيد
ليلة العيد
لم تكن ليلة عادية، تلك التي عاشها ذلك الطفل، منذ أن تفتحت مداركه على الحياة وبدأ يعي معاني الأشياء ويعرف دلالتها. كانت الحياة، كما يحس بها ويعيشها، تسير على وتيرة واحدة، حتى إذا ما أتت مناسبة ما غيرت من تلك الوتيرة وأسبغت عليها لوناً مختلفاً، كأنما ألقت عليها غلالة مطرزة بلون
المناسبة تلك والطقوس المرافقة لها.
كانت تلك الليلة مطلة على واحدة من المناسبات التي تتشح غلالتها بألوان قوس قزح الزاهية، فتضفي على نفس ذلك الطفل شعوراً بالبهجة يظل ملازماً له حتى تنقضي المناسبة وتعود الحياة إلى سيرتها
الأولى. لمتكن ألوان الفرح التي كان يعرفها الناس في تلك الأيام صارخة إلى الدرجة التي تسبغ عليها بهرجة لمتكن مألوفة لدى أهل تلك الفترة. لذلك كانت أبسط الأشياء تشكل بالنسبة لهم علامات فارقة في الحياة،تنقلهم إلى أجواء من البهجة كانوا في أمسِّ الحاجة لها.هكذا أخذ شعور بالسعادة يغمر نفس ذلك الطفل، منذ أن غابت شمس يوم "الوقفة" الذي صامه الكبار، بينما أمضى الصغار جُلَّ نهاره يلهون
ويلعبون بانتظار ساعة الإفطار التي ستعيدهم إلى أجواء رمضان الحميمية، تلك التي مضى عليها شهران ونيّف ولمَّا تغادر بعدُ ذواكرَهم الصغيرة.
أوى الفتية إلى مخادعهم بعد يوم حافل باللعب، مخلدين إلى النوم بانتظار بزوغ فجر جديد سوف يأتي حاملاً معه العيد الذي هم على موعد معه، وآوى طفلنا إلى مخدعه مسلماً عينيه لطارق النعاس وأحلام لم تخرج عن طقوس ذلك اليوم الذي هو بانتظاره مثل سائر أقرانه. لم تكن أحلاماً من ذلك النوع
المحلق مع خيالات.هاري بوتر.ومدرسة السحرة التي يتلقى علومه فيها كي يقضي على سيد الظلام.
فقد كان الوقت مبكراً جداً على هذه الروايات الخرافية التي سيطرت على عقول أطفال اليوم وأخذت تشكل أفكارهم ووجدانهم.كانت ليلة مطرزة بأحلام الثوب الجديد الذي سيلبسه صبيحة العيد، و"العيدية" التي سيجمعها في ذلك اليوم ولن تتعدى في أحسن الأحوال عشرة ريالات بعملة ذاك الزمان، والكيفية
التي سيصرف بها هذه "العيدية"
والبنود التي سيوزعها عليها. وأخيراً.. خروف العيد الذي ستنتهي غداً علاقة ربطته به أياماً هي على وشك الانقطاع لتصبح جزءاً من ذكريات العيد التي تتجدد كلما أقبل.
كانت أصوات المكبِّرين تصل إلى أذنيه الصغيرتين وهو بالكاد يفتح عينيه مستقبلاً خيوط الفجر الأولى. وكان ثمة يد حنونة تربت على كتفيه داعيةً إياه لأداء صلاة العيد التي بدأ يحرص على أدائها مع والده منذ أن أدرك للعيد معنىً لم يعد يفارق وجدانه. ينهض الطفل على عجل كي يبدأ طقوس العيد من
أولها، تلك الطقوس التي قضى معها ليلة كاملة من الأحلام السعيدة التي توشك أن تتحقق، والعيد يطرق بابه حاملاً معه الفرح وكل الأشياء الجميلة التي قضى ليلة العيد محلقاً معها. يكبر الطفل، وتتقلص
مساحات الاحتفاء بالأشياء في حياته كلما سلبت الحياة شيئا من براءته.يدور الزمن دورته، ويأتي العيد بعد أن تبدلت الأدوار وصار ذاك الطفل أباً. وفي صبيحة العيد يذهب الوالد الذي كان ذات يوم طفلاً ليربِّت على كتف ابنه داعياً إياه للذهاب معه لأداء صلاة العيد. ينقلب الابن على جنبه
الآخر معرضاً عن دعوة أبيه مبدياً رغبة ملحة في مواصلة النوم. كانت أصوات المكبِّرين صبيحة العيد تشق عنان السماء، وكان الأبناء الذين بدؤوا رحلة النوم مع خيوط الفجر الأولى يصمون آذانهم عنها. ينقضي نهار العيد كله والأبناء نائمون، لم يشعروا ببهجة العيد التي كان الآباء يعيشونها بكل كيانهم.
يقلب العيد صفحة كانت ذات يوم حافلة بالاحتفاء به ليفتح صفحة لم يعد فيها ذلك العيد الذي عرفه أطفال ذلك الزمن الجميل، فلا يملك إلا أن يطوي أوراقه ويرحل، تاركاً لأطفال اليوم كل الملابس الجديدة التي أصبحوا يرتدونها على مدار العام لكنها لم تعد مغرية لهم، وكل الألعاب الكثيرة التي
أصبحت في متناول أيديهم كل يوم لكنها لم تعد محركة لمشاعرهم ، وكل الدراهم الوفيرة التي أصبحت تملأ جيوبهم لكنها لم تعد قادرة على أن تجلب الفرح الحقيقي لقلوبهم.